سورة التوبة - تفسير تفسير البغوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (التوبة)


        


{لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ} فإن قيل: كيف قال: كفرتم بعد إيمانكم، وهم لم يكونوا مؤمنين؟
قيل: معناه:أظهرتم الكفر بعدما أظهرتم الإيمان.
{إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ} أي: نتب على طائفة منكم، وأراد بالطائفة واحدًا، {نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ} بالاستهزاء. قرأ عاصم: {نَعْفُ} بالنون وفتحها وضم الفاء، {نُعَذِّب} بالنون وكسر الذال، {طَائِفَةً} نصب. وقرأ الآخرون: {يُعْفَ} بالياء وضمها وفتح الفاء، {تُعَذَّب} بالتاء وفتح الذال، {طائفٌ} رفعٌ على غير تسمية الفاعل.
وقال محمد بن إسحاق: الذي عفا عنه رجلٌ واحد، هو مَخْشِيّ بن حُمَيِّر الأشجعي، يقال هو الذي كان يضحك ولا يخوض، وكان يمشي مجانبا لهم وينكر بعض ما يسمع، فلما نزلت هذه الآية تاب من نفاقه، وقال: اللهم إني لا أزال أسمع آية تقرأ أُعْنَى بها تقشعر الجلود منها، وتجب منها القلوب، اللهم اجعل وفاتي قتلا في سبيلك لا يقول أحد أنا غسلت أنا كفنت أنا دفنت، فأُصيب يوم اليمامة، فما أحد من المسلمين إلا عُرِفَ مصرعُه غيره.


قوله تعالى: {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ} أي: هم على دين واحد. وقيل: أمرهم واحد بالاجتماع على النفاق، {يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ} بالشرك والمعصية، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ} أي عن الإيمان والطاعة، {وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ} أي: يمسكونها عن الصدقة والإنفاق في سبيل الله ولا يبسطونها بخير، {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} تركوا طاعة الله، فتركهم الله من توفيقه وهدايته في الدنيا، ومن رحمته في الآخرة، وتركهم في عذابه، {إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ}.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ} كافيتهم جزاء على كفرهم، {وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ} أبعدهم من رحمته، {وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ} دائم.
{كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ} أي: فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول من أمر الله، فلعنتم كما لعنوا {كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً} بطشا ومنعة، {وَأَكْثَرَ أَمْوَالا وَأَوْلادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ} فتمتعوا أو انتفعوا بخلاقهم؛ بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ورضوا به عوضا عن الآخرة، {فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ} أيها الكفار والمنافقون، {كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ} وسلكتم سبيلهم، {وَخُضْتُم} في الباطل والكذب على الله تعالى، وتكذيب رسله، وبالاستهزاء بالمؤمنين، {كَالَّذِي خَاضُوا} أي: كما خاضوا. وقيل: كالذي يعني كالذين خاضوا، وذلك أن الذي اسم ناقص، مثل ما ومن يعبر به عن الواحد والجميع، نظيره قوله تعالى: {كمثل الذي استوقد نارا} ثم قال: {ذهب الله بنورهم} [البقرة- 17].
{أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ} أي: كما حبطت أعمالهم وخسروا كذلك حبطت أعمالكم وخسرتم.
أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي، أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي، أخبرنا محمد بن يوسف، حدثنا محمد بن إسماعيل، حدثنا محمد بن عبد العزيز، حدثنا أبو عمر الصنعاني من اليمن، عن زيد بن أسلم، عن عطاء بن يسار، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لتتبعن سنن من قبلكم شبرا بشبر وذراعا بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لاتبعتموهم»، قلنا: يا رسول الله اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟» وفي رواية أبي هريرة: «فهلِ الناسُ إلا هُمْ»، وقال ابن مسعود رضي الله عنه: «أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سَمْتًا وَهَدْيًا تتبعون عملهم حَذْوَ القُذَّةِ بالقُذَّةِ غير أني لا أدري أتعبدون العِجْلَ أم لا؟».
قوله تعالى: {أَلَمْ يَأْتِهِمْ} يعني المنافقين، {نَبَأُ} خبر، {الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} حين عصوا رُسلنا، وخالفوا أمرنا كيف عذبناهم وأهلكناهم. ثم ذكرهم، فقال: {قَوْمِ نُوحٍ} أهلكوا بالطوفان، {وَعَاد} أهلكوا بالريح {وَثَمُود} بالرجفة، {وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ} بسلب النعمة وهلاك نمرود، {وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ} يعني قوم شعيب أهلكوا بعذاب يوم الظلة، {وَالْمُؤْتَفِكَاتِ} المنقلبات التي جعلنا عاليها سافلها وهم قوم لوط، {أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ} فكذَّبوهم وعصوهم كما فعلتم يا معشر الكفار، فاحذروا تعجيل النقمة، {فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ}.
قوله تعالى: {وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} في الدين واتفاق الكلمة والعون والنصرة. {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} بالإيمان والطاعة والخير، {وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ} عن الشرك والمعصية وما لا يُعرف في الشرع، {وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ} المفروضة، {وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
{وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الأنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً} منازل طيبة، {فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ} أي: بساتين خلد وإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به.
قال ابن مسعود: هي بُطْنَان الجنة، أي: وسطها.
قال عبد الله بن عمرو بن العاص: إن في الجنة قصرا يقال له: عدن حوله البروج والمروج، له خمسة آلاف باب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد.
وقال الحسن: قصر من ذهب لا يدخله إلا نبي أو صديق أو شهيد أو حكم عدل.
وقال عطاء بن السائب: عدن نهر في الجنة جنانه على حافتيه.
وقال مقاتل والكلبي: عدن أعلى درجة في الجنة، وفيها عين التسنيم، والجنان حولها، محدقة بها، وهي مغطاة من حين خلقها الله تعالى حتى ينزلها أهلها: الأنبياء والصديقون والشهداء والصالحون، ومن شاء الله، وفيها قصور الدر واليواقيت والذهب، فتهب ريح طيبة من تحت العرش فتدخل عليهم كثبان المسك الأذفر الأبيض.
{وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ} أي: رضا الله عنهم أكبر من ذلك، {ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ} روينا عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يقول الله عز وجل لأهل الجنة يا أهل الجنة هل رضيتم؟ فيقولون: ربنا ومالنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعطه أحدا من خلقك، فيقول: أفلا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون: ربنا وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول: أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدا».


قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ} بالسيف والقتل، {وَالْمُنَافِقِينَ} واختلفوا في صفة جهاد المنافقين، قال ابن مسعود: بيده فإن لم يستطع فبلسانه وإن لم يستطع فبقلبه، وقال لا تلق المنافقين إلا بوجه مكفهر. وقال ابن عباس: باللسان وترك الرفق. وقال الضحاك: بتغليظ الكلام. وقال الحسن وقتادة: بإقامة الحدود عليهم. {وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ} في الآخرة،. {جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} قال عطاء: نسخت هذه الآية كل شيء من العفو والصفح.
قوله تعالى: {يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا} قال ابن عباس: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالسا في ظل حجرة فقال: «إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان، فإذا جاء فلا تكلموه»، فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «علام تشتمني أنت وأصحابك»؟ فانطلق الرجل، فجاء بأصحابه، فحلفوا بالله، ما قالوا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
وقال الكلبي: نزلت في الجُلاس بن سويد، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم بتبوك، فذكر المنافقين وسمَّاهم رجسا وعابهم، فقال جلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. فسمعه عامر بن قيس، فقال: أجل إن محمدا لصادق وأنتم شر من الحمير، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة أتاه عامر بن قيس فأخبره بما قال الجلاس، فقال الجلاس: كذب علي يا رسول الله، وأمرهما رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحلفا عند المنبر، فقام الجلاس عند المنبر بعد العصر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو ما قاله، ولقد كذب عليَّ عامر، ثم قام عامر فحلف بالله الذي لا إله إلا هو لقد قاله وما كذبت عليه، ثم رفع يديه إلى السماء وقال: اللهم أنزل على نبيك تصديق الصادق منا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون: آمين. فنزل جبريل عليه السلام قبل أن يتفرقا بهذه الآية، حتى بلغ: {فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ} فقام الجلاس فقال: يا رسول الله أسمع الله عز وجل قد عرض علي التوبة، صدق عامر بن قيس فيما قاله، لقد قلته وأنا أستغفر الله وأتوب إليه، فقبل رسول الله ذلك منه وحسنت توبته.
قوله تعالى: {وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ} أي: أظهروا الكفر بعد إظهار الإيمان والإسلام. وقيل: هي سب النبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: كلمة الكفر قول الجلاس: لئن كان محمد صادقا لنحن شر من الحمير. وقيل: كلمة الكفر قولهم {لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل} [المنافقين- 8] وستأتي تلك القصة في موضعها في سورة المنافقين {وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا} قال مجاهد: همَّ المنافقون بقتل المسلم الذي سمع قولهم: لنحن شر من الحمير، لكي لا يفشيه.
وقيل: همَّ اثنا عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة في طريق تبوك ليفتكوا برسول الله صلى الله عليه وسلم، فجاء جبريل عليه السلام وأمره أن يرسل إليهم من يضرب وجوه رواحلهم، فأرسل حذيفة لذلك.
وقال السدي: قالوا إذا قدمنا المدينة عقدنا على رأس عبد الله بن أبي تاجا، فلم يصلوا إليه.
{وَمَا نَقَمُوا} وما كرهوا وما أنكروا منهم، {إِلا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ} وذلك أن مولى الجلاس قُتِل، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بديته اثني عشر ألف درهم فاستغنى. وقال الكلبي: كانوا قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم في ضنك من العيش، فلما قدم عليهم النبي صلى الله عليه وسلم استغنوا بالغنائم.
{فَإِنْ يَتُوبُوا} من نفاقهم وكفرهم {يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا} يعرضوا عن الإيمان، {يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا} بالخزي، {وَالآخِرَةِ} أي: وفي الآخرة بالنار، {وَمَا لَهُمْ فِي الأرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ}.

8 | 9 | 10 | 11 | 12 | 13 | 14 | 15